الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

من أسرار القرآن 07



من أسرار القرآن 07

الاشارات الكونيه في القران الكريم ومغزي دلالتها العلميه
‏(96)‏ فلينظر الانسان الي طعامه
(عبس‏:24)‏

بقلم : د. زغلول النجار



هذه الايه الكريمه جاءت في اوائل النصف الثاني من سوره عبس‏,‏ وهي سوره مكيه‏,‏ وعدد اياتها‏(42)‏ بعد البسمله‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قيمه اسلاميه كبري مؤداها ان التفاضل بين الناس لايكون الا علي اساس من تقواهم لله‏,‏ بغض النظر عن انسابهم‏,‏ وامكاناتهم الماديه‏,‏ ومستوياتهم الاجتماعيه‏,‏ وجاههم‏,‏ وسلطانهم‏,‏ واعمارهم‏,‏ والوانهم‏,‏ واجناسهم‏,‏ وهي قيمه اراد الله‏(‏ تعالي‏)‏ غرسها في قلوب وعقول المسلمين‏,‏ ووضحها بواقعه حدثت مع رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مكه المكرمه حين انشغل بدعوه نفر من زعماء قريش الي دين الله الخاتم‏,‏ واعرض عن صحابي كفيف‏,‏ من اوائل المسلمين‏,‏ جاء يساله في امر من امور الدين‏,‏ فانزل الله‏(‏ تعالي‏)‏ في مطلع هذه السوره المباركه عتابا لرسوله ونبيه الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ حتي يؤكد الحقيقه التي انزلها في مقام اخر من محكم كتابه بقوله‏(‏ عز من قائل‏):..‏ ان اكرمكم عند الله اتقاكم
‏(‏الحجرات‏:13)‏
ومن اجل اقرار هذه القيمه الاسلاميه التي لايمكن للمجتمعات الانسانيه ان تنصلح بغيرها‏,‏ انزل الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من فوق سبع سماوات هذا العتاب الشديد لاحب الخلق اليه‏,‏ واقربهم الي رضوانه‏,‏ لتبقي هذه القيمه العليا حاكمه للمجتمعات الانسانيه اذا ارادت ان تعيش حسب منهج الله‏,‏ وان تحقق رسالتها في هذه الحياه‏.‏ ولذلك حفظ هذا العتاب في كتابه الكريم الذي سيظل يتلي الي يوم الدين‏.‏ تذكره للناس بهذه القيمه الانسانيه التي يجب ان يلتزم بها المسلمون بصفه عامه في مجتمعاتهم‏,‏ وبصفه اخص في طريق الدعوه الي الله‏.‏

وتلمس السوره الكريمه جحود الانسان لخالقه‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وتذكره باصله ونشاته‏,‏ وتهيئه الله‏(‏ تعالي‏)‏ له‏,‏ وتيسير السبل امامه‏,‏ كما تذكره بنهايه حياته الدنيويه بالموت والقبر‏,‏ ثم اعاده بعثه ونشره ليلقي حسابه وجزاءه في الاخره‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فانه لايتقيد باوامر الله ولايقوم بتنفيذها‏.‏
وترد الايات علي هذا الجحود الانساني باستعراض عدد من دلائل القدره الالهيه المبدعه في خلق الانسان‏,‏ واعداد طعامه وطعام انعامه‏,‏ وتذكره بالاخره واهوالها وشدائدها باستعراض عدد من مشاهدها‏,‏ وتصوير انعكاس ذلك علي الخلائق فيها الذين سوف يتمايزون الي مؤمن مستبشر سعيد‏,‏ وكافر شقي تعيس‏.‏

وتبدا السوره الكريمه بالاشاره الي واقعه الصحابي الجليل عبدالله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن ام مكتوم في مكه المكرمه قبل الهجره‏,‏ وكان الرجل مكفوف البصر‏,‏ ولكنه كان مفتح البصيره فبادر بقبول الاسلام دينا‏,‏ وجاء في يوم من الايام الي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يساله في امر من امور الدين‏,‏ والرسول منشغل في مناقشه عدد من زعماء قريش ودعوتهم الي دين الله الخاتم‏,‏ لعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ ان ينصر بهم هذا الدين الذي كانوا يقفون منه موقف المعاداه والصد‏,‏ وفي هذه المعمعه كان ابن ام مكتوم يلح في توجيه اسئلته‏,‏ والرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يتمني لو انتظر قليلا حتي يتمكن من الوصول الي قناعه مع هؤلاء النفر من رؤوس قريش‏,‏ ولكن ابن ام مكتوم استمر في الحاحه بالسؤال‏,‏ فعبس وجه رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وتولي عنه فانزل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ وحيه بهذه السوره المباركه يعاتب فيها سيد المرسلين عتابا شديدا بخطاب الغائب اولا‏,‏ ثم بتوجيه الخطاب اليه مباشره والذي يقول فيه‏(‏ عز من قائل‏):‏
عبس وتولي‏*‏ ان جاءه الاعمي‏*‏ وما يدريك لعله يزكي‏*‏ او يذكر فتنفعه الذكري‏*‏ اما من استغني‏*‏ فانت له تصدي‏*‏ وما عليك الا يزكي‏*‏ واما من جاءك يسعي‏*‏ وهو يخشي‏*‏ فانت عنه تلهي‏*‏ كلا انها تذكره‏*‏ فمن شاء ذكره‏*‏ في صحف مكرمه‏*‏ مرفوعه مطهره‏*‏ بايدي سفره‏*‏ كرام برره‏*(‏ عبس‏:1‏ ‏16)‏

وبعد نزول هذه الايات كان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يكرم ابن ام مكتوم كلما راه ومن ذلك الاكرام كان استخلافه علي المدينه المنوره مرتين‏,‏ وقد كان من المهاجرين الاوائل اليها‏,‏ واستشهد بالقادسيه‏(‏ رضي الله تبارك وتعالي عنه وارضاه‏).‏
كذلك يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ انه ماعبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعه‏,‏ ولا تصدي لغني قط‏,‏ ويروي لنا سفيان الثوري‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ ان الفقراء كانوا امراء في مجلسه‏(‏ عليه الصلاه والسلام‏).‏

ومن الدروس المستفاده من هذه الواقعه الا يخص بالدعوه الي دين الله احد دون احد‏,‏ فالله‏(‏ تعالي‏)‏ وحده هو الذي يعلم اين يكمن الخير‏,‏ والدعوه الي دين الله الخاتم يجب ان تكون للناس كافه بغض النظر عن اعراقهم‏,‏ وانسابهم‏,‏ واجناسهم‏,‏ واعمارهم‏,‏ وامكاناتهم العلميه والتقنيه والماديه‏,‏ ومستوياتهم الاجتماعيه‏,‏ وغير ذلك من الفوارق الطبقيه التي لايقرها الاسلام ولايرضاها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ اساسا للتفضيل بين خلقه‏.‏
ولقد كان في اعلان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لهذا العتاب الالهي الشديد لشخصه الكريم ابلغ الشهادات علي صدق نبوته‏,‏ ونبل رسالته‏,‏ وكمال عبوديته لله الخالق‏,‏ فلا يقوي علي ابراز مثل هذا العتاب الا نبي كريم‏,‏ يعرف حقوق ربه عليه‏,‏ وقدسيه الوحي الذي يتنزل اليه بكلمات الله التامات المنزهه عن الحذف او الاضافه او غير ذلك من المداخلات البشريه‏.‏

كذلك كان في اعلان هذا القرار الالهي في وجه زعامات قريش‏,‏ والمسلمون في مكه المكرمه قله مستضعفه في وسط بيئه جاهليه‏,‏ تقتلها العصبيات العرقيه العمياء‏,‏ وتحكمها الاعراف الظالمه الجائره‏,‏ كان في ذلك اعظم الشهادات علي ان هذا النبي والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كان موصولا بالوحي‏.‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والارض‏,‏ ومؤيدا بتاييده الذي لايضام‏..!!‏
وتستمر الايات في تاكيد هذا القرار الالهي تذكره‏(‏ من الله تعالي‏)‏ لمن شاء ان يتذكر‏,‏ خاصه ان التذكره مدونه في صحائف القران الكريم‏,‏ وهي صحف مكرمه عند رب العالمين‏,‏ مرفوعه مطهره بتكريم الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها‏,‏ وحفظه اياها‏,‏ واشارت الايات الي ان هذه الصحائف مطهره من ايه مداخلات وضعيه‏,‏ او تحريفات بشريه‏,‏ او محاولات للتزييف‏,‏ بايدي سفره‏*‏ كرام برره‏*‏ وهم الملائكه المكرمون الذين حملوا القران العظيم الي خاتم الانبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

واذا ما عاشت المجتمعات الاسلاميه بهذه المعايير الربانيه التي ترجح اهل الصلاح والتقوي والورع علي اهل الفساد‏,‏ والاحتيال‏,‏ والشراهه والطمع‏,‏ والخبث‏,‏ والاقبال علي الدنيا‏,‏ ونسيان الاخره‏,‏ والتسلق من اجل الوصول الي مقامات السلطه‏,‏ وابتزاز العباد‏,‏ ونهب المجتمعات‏,‏ واذلال الناس‏,‏ والتجبر علي الخلق‏...‏ واذا ما سادت معايير السماء علي معايير الارض سعدت المجتمعات الانسانيه واسعدت‏,‏ ولطالما انعكست الاوضاع‏,‏ وانقلبت الموازين‏,‏ وسادت معايير الارض علي معايير السماء‏..‏ اضطربت القيم‏,‏ واختلت المفاهيم‏,‏ وساد الرعاع‏,‏ وتكلم في الناس الرويبضه وصدق الكاذب‏,‏ وكذب الصدوق‏..‏ وائتمن الخائن‏..‏ وخون الامين‏...‏ فشقيت المجتمعات الانسانيه واشقت‏...!!‏

وتتتابع الايات بعد ذلك في تعجب ساخر من موقف الانسان الذي يكفر بالله‏,‏ ويتجاهل ضروره الايمان به‏,‏ ويعرض عن هدايته‏,‏ ويستعلي علي رسالته وعلي الخضوع لجلاله بالطاعه والعباده‏,‏ فتذكره الايات باصله ومنشئه‏,‏ وضعفه في بدايات وجوده‏,‏ وحاجته الي رعايه ربه في مختلف مراحل نموه‏,‏ وفي جميع لحظات وجوده‏;‏ وقد اعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ العديد من المواهب والقدرات‏,‏ ويسر له سبل الحياه‏,‏ وطرق الهدايه‏,‏ والانسان غافل عن ذلك كل الغفله‏,‏ فلا يؤدي ما عليه لله‏(‏ تعالي‏)‏ من حقوق‏,‏ ولايقوم بدوره علي الارض كما رسمه له خالقه‏,‏ فما اكفره بنعم الله‏,‏ وما اجحده بافضال خالقه عليه‏...!!‏

وتعبيرا عن هذا الموقف الجاحد من الانسان الكافر بنعم الله والمتنكر لافضاله قال‏(‏ تعالي‏):‏ قتل الانسان ما اكفره‏*‏
‏(‏عبس‏:17)‏

ولفظ قتل هنا دعاء علي الكافر‏,‏ ولعن له‏,‏ وهو من الله‏(‏ تعالي‏)‏ غضب عليه في الدنيا‏,‏ وعذاب ومهانه واقعان به لا محاله في الاخره‏,‏ فمهما يطل عمره في الدنيا فاخرته الموت والقبر تحت الارض‏,‏ والقبر اما ان يكون روضه من رياض الجنه او حفره من حفر النيران‏.‏
وامره في بدء خلقه كامره في يوم بعثه الذي يصفه المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بقوله الشريف‏:‏ ما بين النفختين اربعون‏...‏ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل‏,‏ وليس من الانسان شئ الا ويبلي‏,‏ الا عظما واحدا‏,‏ وهو عجب الذنب‏,‏ ومنه يركب الخلق يوم القيامه‏.‏

وعلي ذلك فان مصير الانسان مرهون بيد خالقه من لحظه النطفه المتناهيه الضاله في الحجم الي خروجه من بطن امه طفلا‏,‏ ثم مروره بمختلف مراحل الحياه حتي الوفاه‏,‏ فالله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي خلقه في صلب ابيه حين شاء‏,‏ واخرجه الي مسرح الحياه حين شاء‏,‏ وحيث اراد‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ الذي انهي حياته حين شاء‏,‏ وحيث اراد‏,‏ وابقاه في قبره الي ان يشاء‏,‏ فاذا جاءت الاخره بعثه ربه من بين التراب كيف يشاء‏,‏ وانشره ليوم الحساب والجزاء‏,‏ حيث فريق في الجنه‏,‏ وفريق في السعير‏,‏ وانها لجنه ابدا‏,‏ او نار ابدا كما اخبر الصادق المصدوق‏(‏ عليه من الله افضل الصلاه وازكي التسليم‏).‏
وانطلاقا من ذلك فعلي كل انسان عاقل ان يستعد ليوم الحساب‏,‏ وان يجد من اجل النجاه من اهواله‏,‏ فالحياه ليست للهو والعبث‏,‏ ولايمكن ان تقضي سدي‏,‏ فللانسان فيها رساله ذات وجهين‏:‏ عباده الله‏(‏ تعالي‏)‏ بما امر‏,‏ وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الارض بعمارتها‏,‏ واقامه عدل الله فيها‏.‏

والناس في غالبيتهم الساحقه تغيب عنهم هذه الحقيقه‏,‏ فيهدرون اعمارهم وهم عن الحق لاهون حتي ينتهي بهم الاجل‏,‏ فيفاجاون بلحظه الحساب‏,‏ وما اشقها من لحظه‏..!!‏

لذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قتل الانسان ما اكفره‏*(‏ عبس‏:17)‏
والله‏(‏ تعالي‏)‏ صاغ هذه الايه الكريمه بصيغه الاستفهام الاستنكاري التوبيخي‏,‏ التقريعي للانسان الكافر‏,‏ بمعني ما الذي حمله علي الكفر بالله؟‏,‏ او ما اشد كفره بالله مع كثره احسان الله‏(‏ تعالي‏)‏ اليه‏,‏ والصيغه في الحالين فيها التعجب من شده كفره‏,‏ وتاكيد استحقاقه العقاب باشد الوان العذاب‏...!!‏

ولذلك اتبعت هذه الايات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
كلا لما يقض ما امره‏*(‏ عبس‏:23)‏
ولفظه‏(‏ كلا‏)‏ هنا بمعني‏(‏ حقا‏)‏ انه لم يفعل ما امره به الله‏(‏ تعالي‏)‏ فاستحق العذاب الذي حذره‏(‏ سبحانه‏)‏ منه عن طريق الانبياء والمرسلين‏.‏
وبعد ذلك ينتقل السياق الي استعراض واحده من ايات الله الكبري في الخلق‏,‏ الا وهي اعداد الطعام المناسب‏,‏ والكافي‏,‏ واللازم لكل حي علي الارض‏,‏ ومن ذلك الانسان وانعامه‏,‏ ولذلك تلفت الايات نظر الانسان الجاحد الي هذه الحقيقه وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

فلينظر الانسان الي طعامه‏*‏ انا صببنا الماء صبا‏*‏ ثم شققنا الارض شقا‏*‏ فانبتنا فيها حبا‏*‏ وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏*‏ وحدائق غلبا‏*‏ وفاكهه وابا‏*‏ متاعا لكم ولانعامكم‏*‏
‏(‏عبس‏:24‏ ‏32).‏

والامر بالنظر هنا ليس المقصود به مجرد النظر للابصار‏,‏ ولكنه النظر للاعتبار‏,‏ وذلك لان الطعام ضروره من ضرورات الحياه‏,‏ ولازمه من لوازمها‏,‏ ولايملك انسان الادعاء بان له يدا في دوره الماء حول الارض‏,‏ والتي لا ينشئها‏,‏ ولا يحركها الا الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزه والجلال‏:...‏ اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‏,‏ فاما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي‏,‏ كافر بالكوكب‏,‏ واما من قال‏:‏ مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي‏,‏ مؤمن بالكوكب‏(‏ البخاري‏)‏ وقال‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):...‏ ولا يعلم متي ياتي المطر احد الا الله‏...(‏ البخاري‏)‏
ولايملك انسان عاقل ان يدعي ان له يدا في عمليه انبات البذور‏,‏ ولا في شق الارض لاخراج البادرات النباتيه من داخلها‏..!!‏

ولايستطيع عاقل كذلك الادعاء بان له يدا في اخراج نوع واحد من انواع نبات الارض والذي تقدر انواعه المعروفه لنا باكثر من ثلاثمائه الف نوع‏.‏ ويمثل كل نوع من هذه الانواع ببلايين الافراد‏,‏ وكل نوع من هذه الانواع‏,‏ بل كل فرد من الافراد له من صفاته الشكليه الخارجيه‏,‏ والداخليه التشريحيه والوظائفيه ما يميزه عن غيره‏.‏
وقد ضرب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا في سوره عبس من نماذج النباتات ما شمل الحبوب‏,‏ والاعناب‏,‏ والعلف الرطب للبهائم‏,‏ والتبن الجاف‏,‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق الملتفه الاشجار العظام الغليظه‏,‏ واشجار الفاكهه‏,‏ والكلا‏,‏ والمرعي‏,‏ وهذه النماذج المختاره في سوره عبس تكاد تغطي كل ما يحتاجه الانسان وانعامه ودوابه من المجموعات الرئيسيه للمملكه النباتيه‏.‏

وخاتمه عمر الانسان في هذه الحياه الدنيا‏,‏ وخاتمه تمتعه بمباهجها وزخرفها هي الموت‏,‏ والقبر‏,‏ ثم البعث‏,‏ والعرض الاكبر امام الله‏(‏ تعالي‏)‏ للحساب‏,‏ ثم الخلود في الحياه القادمه اما في الجنه ابدا واما في النار ابدا‏,‏ وفي ذلك تقول الايات في ختام سوره عبس ما يلي‏:‏
فاذا جاءت الصاخه‏*‏ يوم يفر المرء من اخيه‏*‏ وامه وابيه‏*‏ وصاحبته وبنيه‏*‏ لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه‏*‏ وجوه يومئذ مسفره‏*‏ ضاحكه مستبشره‏*‏ ووجوه يومئذ عليها غبره‏*‏ ترهقها قتره‏*‏ اولئك هم الكفره الفجره‏*‏
‏(‏عبس‏:33‏ ‏42).‏

والصاخه هي النفخه الثانيه في الصور‏,‏ وسميت بذلك لانها تصخ الاذان من شدتها وقد استخدمت اللفظه كاسم من اسماء القيامه‏,‏ التي من تعاظم اهوالها تجعل الانسان يفر من اقرب الناس اليه‏,‏ والصقهم به‏..!!‏
وبعد الحساب ينقسم الناس الي اصحاب الوجوه المؤمنه وهي مسفره‏,‏ مشرقه‏,‏ مضيئه‏,‏ مستبشره بتكريم الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها في الجنه‏,‏ وقد بشرت بها‏,‏ ووجوه اخري للكفره الفجره‏,‏ الذين كفروا بالله وبرسالته الخاتمه‏,‏ وخرجوا علي حدوده‏,‏ وانتهكوا حرماته‏,‏ وقد علاها الندم والحزن‏,‏ وارتسمت علي قسماتها بوادر الحسره والياس‏,‏ وغشيتها ملامح الذل والعار‏,‏ وقد علمت ان مصيرها الي النار‏...!!‏

وعلي هذه الوجوه المؤمنه‏,‏ وتلك الوجوه الكافره ترتسم مصائر العباد في الاخره‏,‏ وبذلك وضع الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا في مطلع سوره عبس معيارا من معايير الحق‏,‏ من التزم به فاز في الدنيا والاخره‏,‏ ومن ضيعه شقي في الدنيا والاخره‏,‏ ووضع لنا في خاتمه هذه السوره المباركه صوره من صور الثواب والعقاب في الاخره‏,‏ فالتقي اول السوره بخاتمتها في تزاوج عجيب يشهد لله‏(‏ تعالي‏)‏ بطلاقه القدره الالهيه التي ابدعت كتابه الخالد الذي انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده‏(‏ الذي قطعه علي ذاته العليه‏)‏ في نفس لغه وحيه‏(‏ اللغه العربيه‏)‏ منذ اكثر من اربعه عشر قرنا والي ان يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الارض ومن عليها‏.‏

من الاشارات الكونيه في سوره عبس
‏(1)‏ الاشاره الي خلق الانسان من نطفه تحمل كل صفاته‏,‏ وجميع المقدر له‏.‏
‏(2)‏ لفت انظار الناس الي جوانب الاعجاز العلمي في توفير كل الاسباب اللازمه لخلق طعام الانسان‏,‏ وطعام انعامه‏,‏ وطعام كل كائن حي علي وجه الارض‏.‏

‏(3)‏ الاشاره الي دوره الماء حول الارض بانزاله من السماء‏.‏
‏(4)‏ الاشاره الي شق الارض بواسطه انزال الماء عليها او ريها من اجل اعدادها للانبات‏,‏ او شقها بواسطه البادرات النباتيه الخارجه منها وكلاهما صحيح‏.‏

‏(5)‏ خلق مختلف انواع النباتات‏,‏ واعطاء النماذج الاساسيه لها التي يمكن ان تكون تمثيلا كاملا لمجموعات النباتات الراقيه المزهره‏,‏ التي تشكل الغذاء الرئيسي لكل من الانسان وانعامه‏(‏ من مثل الحبوب‏,‏ والاعناب‏,‏ والقضب‏,‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق الغلب‏,‏ والفاكهه والاب‏).‏
‏(6)‏ الاستدلال باحياء النبات من الارض الهامده‏,‏ علي احياء الاجسام بعد تحللها الي تراب‏.‏

‏(7)‏ الاشاره الي حقيقه الحياه والموت‏,‏ ثم من بعد ذلك البعث والحساب‏.‏
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه خاصه بها‏,‏ ولذلك فسوف اقصر الحديث هنا علي النقطه الثانيه فقط من القائمه السابقه‏,‏ والتي عرضتها السوره الكريمه في اياتها المرقمه من‏24‏ الي‏32‏ ولكن قبل ذلك لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من المفسرين في شرح دلاله هذه الايات الكريمه‏.‏

من اقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
فلينظر الانسان الي طعامه‏*‏ انا صببنا الماء صبا‏*‏ ثم شققنا الارض شقا‏*‏ فانبتنا فيها حبا‏*‏ وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏*‏ وحدائق غلبا‏*‏ وفاكهه وابا‏*‏ متاعا لكم ولانعامكم‏*(‏ عبس‏:24‏ ‏32)‏

‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ فلينظر الانسان الي طعامه‏)‏ فيه امتنان‏,‏ وفيه استدلال باحياء النبات من الارض الهامده‏,‏ علي احياء الاجسام بعدما كانت عظاما باليه وترابا متمزقا‏,(‏ انا صببنا الماء صبا‏)‏ اي انزلناه من السماء علي الارض‏,(‏ ثم شققنا الارض شقا‏)‏ اي امسكناه فيها فيدخل في تخومها‏,‏ فنبت الزرع وارتفع وظهر علي وجه الارض‏,(‏ فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا‏),‏ فالحب كل ما يذكر من الحبوب‏,‏ والعنب معروف‏,‏ والقضب هو الفصفصه‏(‏ العلف‏)‏ التي تاكلها الدواب رطبه‏,‏ ويقال لها القت ايضا‏,(‏ وزيتونا‏)‏ وهو معروف‏,‏ وهو ادم وعصيره ادم‏,‏ ويستصبح به ويدهن به‏(‏ ونخلا‏)‏ يؤكل بلحا وبسرا‏,‏ ورطبا وتمرا‏,‏ ونيئا ومطبوخا‏,‏ ويعتصر منه رب وخل‏(‏ وحدائق غلبا‏)‏ اي بساتين‏...‏ وغلبا نخل غلاظ كرام‏,...‏ او كل ما التف واجتمع‏...‏ او الشجر الذي يستظل به‏...‏ او غلاظ الاوساط‏,‏ وقوله تعالي‏:(‏ وفاكهه وابا‏)‏ اما الفاكهه فكل ما يتفكه به من الثمار‏..‏ او كل ما اكل رطبا‏,‏ والاب ما انبتت الارض مما تاكله الدواب ولا ياكله الناس‏(‏ الكلا والمرعي من مثل الحشيش‏)....,‏ وقوله تعالي‏(‏ متاعا لكم ولانعامكم‏)‏ اي عيشه لكم ولانعامكم في هذه الدار‏,‏ الي يوم القيامه‏.‏

وقال بقيه المفسرين كلاما مشابها لا اري حاجه لتكراره هنا علي الرغم من فضل كل واحد منهم‏.‏

من الدلالات العلميه للايات الكريمات
‏*‏ اولا‏:‏ فلينظر الانسان الي طعامه‏*‏
‏(‏عبس‏:24)‏
اعتمد الانسان في طعامه اساسا علي النبات ولذلك تحدثت الايات التاليه عن صب الماء من السماء صبا‏,‏ ثم عن شق الارض شقا‏,‏ ثم عن عدد من النباتات وثمارها تغطي كل مايحتاجه الانسان وانعامه من الطعام النباتي‏,‏ والطعام النباتي يحمل في طياته الاشاره الي الطعام الحيواني‏.‏ وذلك لان الحيوانات التي ياكلها الانسان تعتمد في غذائها علي النبات وثماره‏.‏ والطعام هو مصدر الطاقه اللازمه لمختلف الانشطه في جسم الانسان‏,‏ وللمحافظه علي درجه حرارته‏,‏ ولبناء الخلايا والانسجه اللازمه في مختلف مراحل نموه ولتعويض الفاقد منها باستمرار‏.‏
وجسد الانسان يحتاج لوجوده حيا الي الهواء‏,‏ والماء‏,‏ والطعام‏,‏ فلو انقطع عنه الهواء لدقائق معدوده هلك بالاختناق‏,‏ واذا انقطع عنه الماء فانه يمكنه تحمل ذلك لعده ايام‏,‏ واذا انقطع عنه الطعام يمكنه البقاء حيا لعده اسابيع‏,‏ مع نقص حاد في الوزن‏,‏ وتدهور في حالته الصحيه ان لم يتدارك ذلك بتعويض سريع‏.‏
ويحتاج الانسان في طعامه الي المواد الاساسيه التاليه‏:‏

‏(1)‏ الكربوهيدرات‏:‏ وهي مركبات عضويه مهمه تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرتي الايدروجين والاكسجين بنسبه وجودهما في الماء‏;‏ ووجود الكربوهيدرات في كل من النبات والحيوان في هيئات متعدده ابسطها السكريات الاحاديه مثل سكر العنب‏(‏ الجلوكوز‏),‏ وسكر الفاكهه‏(‏ الفركتوز‏),‏ ويمكن للسكريات الاحاديه ان تتحد مع بعضها البعض بواسطه روابط خاصه لتكون سكريات ثنائيه مثل سكر القصب والبنجر‏(‏ السكروز‏),‏ وسكر الشعير‏(‏ المالتوز‏),‏ وسكر الحليب‏(‏ اللاكتوز‏),‏ او سكريات ثلاثيه مثل سكر الرافينوز‏,‏ او سكريات عديده مثل النشا‏,‏ والسيليولوز‏.‏ والنشا يوجد في كثير من النباتات مختزنا في بذورها او في درناتها وفي العديد من ثمارها‏,‏ بينما تتكون جدران الخلايا النباتيه اساسا من السيليولوز وهو يوجد في القش‏,‏ والخشب‏,‏ والجوت‏,‏ وفي ثمار القطن‏,‏ وفي المجموعات الخضريه للنباتات‏.‏

‏(2)‏ البروتينات‏:‏ وهي مركبات عضويه تتكون جزيئاتها العملاقه باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرات الايدروجين والاكسجين والنيتروجين‏,‏ وقد تحتوي بعض جزيئاتها علي ذرات من الكبريت او الفوسفور‏.‏ وتوجد هذه العناصر في سلاسل طويله من الاحماض الامينيه‏,‏ ويبلغ عدد الاحماض الامينيه التي تشترك في بناء البروتينات عشرين حمضا‏,‏ وترتبط مع بعضها البعض برابطه خاصه تعرف باسم رابطه البيبتيد‏(
PeptideBond),‏ ويلتف الجزئ البروتيني علي ذاته في هيئه لولبيه او حلزونيه‏.‏ وتوجد البروتينات في انواع بسيطه تتكون من الاحماض الامينيه فقط‏,‏ وانواع معقده‏(‏ مقترنه‏)‏ يدخل في بنائها مجموعات من مركبات كيميائيه اخري‏,‏ وتوجد البروتينات في انسجه الكائنات الحيه وفي جبلتها‏(‏ البروتو بلازم‏)‏ وتلعب ادوارا مهمه في العديد من انشطتها الحيويه مثل الدعم والحركه في العظام والعضلات‏,‏ والنقل والاتصالات في الدم وفي الاعصاب‏,‏ وفي كتابه الشفره الوراثيه‏,‏ وفي تحفيز مختلف التفاعلات مثل افراز الانزيمات وبعض الهرمونات‏.‏

‏(3)‏ الزيوت والدهون‏:‏ وتتكون اساسا من اتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من الايدروجين والاكسجين بنسب اعلي من نسب وجودهما في كل من الماء والكربوهيدرات‏,‏ وبعض الدهون يحتوي بالاضافه الي ذلك علي عنصري الفوسفور والنيتروجين‏.‏ والزيوت والدهون لهما تركيب كيميائي متشابه‏,‏ فاذا بقي هذا التركيب سائلا عند درجه عشرين مئويه سمي زيتا‏,‏ واذا بقي جامدا سمي دهنا والدهون تعرف باسم الجليسريدات لتكونها من اتحاد بعض الاحماض الدهنيه مع الجليسرين‏.‏ وتضم الشموع الي مجموعه الزيوت والدهون تحت مسمي اللبيدات‏(
Lipids).‏ وبعض الثمار النباتيه مثل الزيتون‏,‏ والسمسم‏,‏ والفول السوداني‏,‏ وفول الصويا‏,‏ والخروع‏,‏ وبذور الكتان‏,‏ وبذور القطن‏,‏ وبذور دوار الشمس‏,‏ وثمار كل من نخيل الزيت‏,‏ وجوز الهند‏;‏ وبعض اجنه الحبوب مثل القمح‏,‏ والذره‏,‏ والارز تعتبر من اهم مصادر الزيوت النباتيه‏.‏
وهذه المركبات التي تدخل في طعام الانسان من الكربوهيدرات الي البروتينات الي الدهون علي قدر هائل من الانتظام والدقه والتعقيد في بنائها‏,‏ مما يقطع بانها لايمكن ان تكون قد اوجدت نفسها بنفسها‏,‏ او وجدت بمحض المصادفه‏,‏ ولذلك تشهد لخالقها العظيم بطلاقه القدره‏,‏ وابداع الصنعه‏,‏ واحكام الخلق‏,‏ ودقه التقدير‏,‏ ومن هنا كان لفت نظر الانسان الي طعامه‏....!!‏

‏*‏ ثانيا‏:‏ انا صببنا الماء صبا‏:‏ وصب الماء اراقته من اعلي‏,‏ اي انزاله من السماء بغزاره كالغيث‏,‏ والصبيب هو المصبوب من ماء المطر‏,‏ ولولا دوره الماء حول الارض لفسد كل مائها الذي هو شريان الحياه‏,‏ والذي يحيا ويموت فيه بلايين الافراد من الكائنات الحيه في كل لحظه‏.‏ ويقدر الغطاء المائي للارض حاليا بنحو‏1,4‏ بليون كيلو متر مكعب من الماء‏,‏ يتبخر منه سنويا‏380,000‏ كيلو متر مكعب‏,‏ تعود كلها الي الارض ولكن بتوزيع ينشره الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه‏,‏ وحكمته‏,‏ وقدرته‏.‏ ولايستطيع التحكم في دوره الماء حول الارض الا الله‏(‏ تعالي‏),‏ ولايستطيع احد من الخلق ان ينزل قطره من ماء السماء حيث او متي يشاء‏,‏ ومن هنا كانت الاشاره الي انزال ماء السماء علي انها من اوضح دلالات القدره الالهيه‏.‏

‏*‏ ثالثا‏:‏ ثم شققنا الارض شقا‏:‏ والشق هو واحد الشقوق‏,‏ وهي الفتحات الطوليه الواقعه في الشئ‏,‏ والمقصود بالفعل‏(‏ شققنا‏)‏ هنا النحر الراسي لماء المطر حينما يصب علي الارض صبا‏,‏ وقد ثبت ان ماء المطر الساقط علي الارض يستطيع احداث شقوق فيها تتراوح اعماقها بين امتار قليله والمائتي متر‏,‏ مما يعين علي تخلل الماءللصخور المنفذه ليكون المخزون المائي تحت سطحها‏,‏ ويجدد عذوبته ومحتواه من غاز الاكسجين‏.‏
وكلما اتصلت هذه الشقوق الناتجه عن الحفر الراسي لماء المطر النازل من السماء كالغيث‏,‏ مع اشباهها من فواصل الصخور وتشققاتها‏,‏ ومستويات التطبق في الصخور الرسوبيه‏,‏ وكهوف الاذابه في كل من الصخور الكلسيه والملحيه وما يرتبط بها من حفر‏,‏ وممرات‏,‏ ودهاليز‏,‏ واغوار‏,‏ قد يصل طولها الي عشرات الكيلو مترات‏,‏ يفسح مجالا رحبا لتجويه الصخور ولخزن الماء تحت سطح الارض‏,‏ وتعظيم دوره في توسيع تلك الشقوق والحفر‏,‏ بمختلف صور التجويه الميكانيكيه‏(‏ من مثل فعل الصقيع‏)‏ والتجويه بفعل الكائنات الحيه‏,‏ والتجويه الكيميائيه‏(‏ عن طريق الاذابه‏,‏ والكربنه‏,‏ ولاحلال‏,‏ والتميؤ‏,‏ والاكسده‏)‏ التي تضعف من تماسك الصخر‏,‏ وتعين علي تشققه وتفتته وتكون التربه من هذا الفتات‏,‏ كما تعظم من دور الماء تحت سطح الارض‏,‏ في المساعده علي امداد نباتات الارض بما تحتاجه من ماء وعناصر غذائيه‏,‏ وهذا المعني يبدو لي انه الاقرب والله تعالي اعلي واعلم وذلك لوروده بعد الاشاره الي صب الماء من السماء صبا‏.‏ ولكن لا يستبعد ايضا ان يكون المقصود بشق الارض بعد صب ماء المطر عليها‏,‏ هو تشقق التربه نتيجه لاختلاطها بماء السماء‏,‏ والتربه الزراعيه يغلب علي تركيبها المعادن الصلصاليه التي تتكون اساسا من سليكات الالومنيوم الممياه‏,‏ والمتراصه فوق بعضها البعض في رقائق دقيقه‏,‏ وهذا المركب الكيميائي له شراهه شديده للماء‏,‏ فاذا وصله البلل انتفش وانتفخ‏,‏ وارتفع الي اعلي حتي ترق التربه رقه شديده ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقه المنبثقه من داخل البذره النابته المدفونه في التربه لتصل السويقه الي ما فوق سطح الارض‏.‏ ويعين علي ذلك ازاحه الماء لقدر من الهواء الموجود بين رقائق الصلصال‏,‏ والحركه البراونيه للماده الغرويه في دقائق التربه من المعادن الصلصاليه‏,‏ وتنافر الشحنات الكهربيه المتشابهه علي اسطح تلك الرقائق مع بعضها البعض‏,‏ ومع قطبي جزئ الماء المزدوج القطبيه‏,‏ ونشاط كل صور الحياه الكامنه في قطاع التربه وفيها البلايين من الكائنات الحيه الساكنه‏,‏ فاذا وصلها الماء استيقظت ونشطت ومن ذلك بذور النباتات‏,‏ وبيض بعض الحيوانات ويرقاتها‏,‏ وبعض البكتيريا والفطريات وغيرها‏,‏ ومخزون التربه من هذه الكائنات يتراوح مابين الميكروسكوبيه منها والفقاريه‏,‏ وقوه انبات البذور من القوي التي لايمكن الاستهانه بها‏.‏

‏*‏ رابعا‏:‏ فانبتنا فيها حبا‏*‏وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏,‏ وحدائق غلبا‏,‏ وفاكهه وابا متاعا لكم ولانعامكم‏*‏
‏(‏ عبس‏:27‏ ‏32)‏
وهذه الايات احتوت كل صنوف النبات التي يحتاجها الانسان وانعامه في طعامهم‏.‏

فلفظه‏(‏ الحب‏)‏ تشمل جميع انواع الحبوب من مثل القمح والشعير‏,‏ والذره‏,‏ والارز‏,‏ وهي من النباتات الزهريه ذات الفلقه الواحده‏,‏ والتي تجمع في العائله النجيليه‏,‏ وهي اهم عائلات النبات من الناحيه الاقتصاديه‏,‏ للانسان ولانعامه لانها تضم كذلك كثيرا من حشائش المراعي‏,‏ وتغطي نباتاتها اكثر المساحات المزروعه علي سطح الارض‏.‏ والعنب يمثل العائله العنبيه التي تضم‏11‏ جنسا‏,‏ واكثر من ستمائه نوع من انواع النبات‏.‏
والقضب هو العلف الرطب للانعام والدواب كالكلا والبرسيم‏.‏ وسمي قضبا لانه يقضب اي يقطع بعد ظهوره مره بعد اخري‏.‏ والزيتون ذلك الثمر المبارك من الشجره المباركه يمثل العائله الزيتونيه والتي تشمل‏22‏ جنسا‏,‏ واكثر من خمسمائه نوع من انواع النبات‏.‏ والنخل يمثل العائله النخيليه وتشمل نحو مائتي جنس‏,‏ واكثر من اربعهالاف نوع من الاشجار والشجيرات والمتسلقات المنتشره في المناطق الاستوائيه والمعتدله‏.‏

و‏(‏حدائق غلبا‏)‏ اي بساتين محوطه‏,‏ و‏(‏غلبا‏)‏ صفه لتعاظم اشجارها والتفافها‏.‏
و‏(‏فاكهه‏):‏ كل ما يتفكه به الانسان من الثمار ويتمتع به من طعام رطب لذيذ الطعم خاصه الثمار الحلوه المذاق‏,‏ لانه يقال في العربيه تفكه بالشئ اي تمتع به‏,‏ وقيل في الفاكهه انها الثمار كلها ما عدا العنب والرمان‏.‏ و‏(‏ابا‏)‏ وهو الكلا والمرعي‏,‏ وما تاكله الانعام والدواب من غير ذلك من العشب ومختلف اجزاء النبات‏,‏ رطبا كان ام يابسا‏(‏ كالتبن والدريس‏),‏ وهو في ذلك اعم من القضب ولذلك ختمت هذه المجموعه من الايات بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
متاعا لكم ولانعامكم‏*‏
‏(‏ عبس‏:32).‏

وهذه الحقائق العلميه لم تعرف الا في القرن العشرين‏,‏ وورودها في كتاب الله الذي انزل من قبل اربعه عشر قرنا يثبت لكل ذي بصيره ان القران الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوه والرساله للنبي الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين‏,‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏



المصدر : جريدة الاهرام القاهرية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق