حياكم الله - أعزائي في هذه الزاوية أخترت لكم بعض المواضيع التي تبين أسرار القرآن الكريم و آياته و السنّة النبوية ، و عظمة هذا الكون و اتساعه لنتدبر و نتفكـّر فيهما. كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أو لم يكفي بربك أنه على كل شيء قدير. و أرجو المعذرة لأي تقصير أو خطأ.فلست بعالم و لا فقيه ما أنا إلا طالب.
الأربعاء، 28 أكتوبر 2009
من أسرار القرآن 07
من أسرار القرآن 07
الاشارات الكونيه في القران الكريم ومغزي دلالتها العلميه (96) فلينظر الانسان الي طعامه (عبس:24) بقلم : د. زغلول النجار
هذه الايه الكريمه جاءت في اوائل النصف الثاني من سوره عبس, وهي سوره مكيه, وعدد اياتها(42) بعد البسمله, ويدور محورها الرئيسي حول قيمه اسلاميه كبري مؤداها ان التفاضل بين الناس لايكون الا علي اساس من تقواهم لله, بغض النظر عن انسابهم, وامكاناتهم الماديه, ومستوياتهم الاجتماعيه, وجاههم, وسلطانهم, واعمارهم, والوانهم, واجناسهم, وهي قيمه اراد الله( تعالي) غرسها في قلوب وعقول المسلمين, ووضحها بواقعه حدثت مع رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في مكه المكرمه حين انشغل بدعوه نفر من زعماء قريش الي دين الله الخاتم, واعرض عن صحابي كفيف, من اوائل المسلمين, جاء يساله في امر من امور الدين, فانزل الله( تعالي) في مطلع هذه السوره المباركه عتابا لرسوله ونبيه الخاتم( صلي الله عليه وسلم) حتي يؤكد الحقيقه التي انزلها في مقام اخر من محكم كتابه بقوله( عز من قائل):.. ان اكرمكم عند الله اتقاكم
(الحجرات:13)
ومن اجل اقرار هذه القيمه الاسلاميه التي لايمكن للمجتمعات الانسانيه ان تنصلح بغيرها, انزل الله( سبحانه وتعالي) من فوق سبع سماوات هذا العتاب الشديد لاحب الخلق اليه, واقربهم الي رضوانه, لتبقي هذه القيمه العليا حاكمه للمجتمعات الانسانيه اذا ارادت ان تعيش حسب منهج الله, وان تحقق رسالتها في هذه الحياه. ولذلك حفظ هذا العتاب في كتابه الكريم الذي سيظل يتلي الي يوم الدين. تذكره للناس بهذه القيمه الانسانيه التي يجب ان يلتزم بها المسلمون بصفه عامه في مجتمعاتهم, وبصفه اخص في طريق الدعوه الي الله.
وتلمس السوره الكريمه جحود الانسان لخالقه( سبحانه وتعالي), وتذكره باصله ونشاته, وتهيئه الله( تعالي) له, وتيسير السبل امامه, كما تذكره بنهايه حياته الدنيويه بالموت والقبر, ثم اعاده بعثه ونشره ليلقي حسابه وجزاءه في الاخره, وعلي الرغم من ذلك فانه لايتقيد باوامر الله ولايقوم بتنفيذها.
وترد الايات علي هذا الجحود الانساني باستعراض عدد من دلائل القدره الالهيه المبدعه في خلق الانسان, واعداد طعامه وطعام انعامه, وتذكره بالاخره واهوالها وشدائدها باستعراض عدد من مشاهدها, وتصوير انعكاس ذلك علي الخلائق فيها الذين سوف يتمايزون الي مؤمن مستبشر سعيد, وكافر شقي تعيس.
وتبدا السوره الكريمه بالاشاره الي واقعه الصحابي الجليل عبدالله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن ام مكتوم في مكه المكرمه قبل الهجره, وكان الرجل مكفوف البصر, ولكنه كان مفتح البصيره فبادر بقبول الاسلام دينا, وجاء في يوم من الايام الي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) يساله في امر من امور الدين, والرسول منشغل في مناقشه عدد من زعماء قريش ودعوتهم الي دين الله الخاتم, لعل الله( تعالي) ان ينصر بهم هذا الدين الذي كانوا يقفون منه موقف المعاداه والصد, وفي هذه المعمعه كان ابن ام مكتوم يلح في توجيه اسئلته, والرسول( صلي الله عليه وسلم) يتمني لو انتظر قليلا حتي يتمكن من الوصول الي قناعه مع هؤلاء النفر من رؤوس قريش, ولكن ابن ام مكتوم استمر في الحاحه بالسؤال, فعبس وجه رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وتولي عنه فانزل ربنا( تبارك وتعالي) وحيه بهذه السوره المباركه يعاتب فيها سيد المرسلين عتابا شديدا بخطاب الغائب اولا, ثم بتوجيه الخطاب اليه مباشره والذي يقول فيه( عز من قائل):
عبس وتولي* ان جاءه الاعمي* وما يدريك لعله يزكي* او يذكر فتنفعه الذكري* اما من استغني* فانت له تصدي* وما عليك الا يزكي* واما من جاءك يسعي* وهو يخشي* فانت عنه تلهي* كلا انها تذكره* فمن شاء ذكره* في صحف مكرمه* مرفوعه مطهره* بايدي سفره* كرام برره*( عبس:1 16)
وبعد نزول هذه الايات كان رسول الله( صلي الله عليه وسلم) يكرم ابن ام مكتوم كلما راه ومن ذلك الاكرام كان استخلافه علي المدينه المنوره مرتين, وقد كان من المهاجرين الاوائل اليها, واستشهد بالقادسيه( رضي الله تبارك وتعالي عنه وارضاه).
كذلك يروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) انه ماعبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعه, ولا تصدي لغني قط, ويروي لنا سفيان الثوري( رضي الله عنه) ان الفقراء كانوا امراء في مجلسه( عليه الصلاه والسلام).
ومن الدروس المستفاده من هذه الواقعه الا يخص بالدعوه الي دين الله احد دون احد, فالله( تعالي) وحده هو الذي يعلم اين يكمن الخير, والدعوه الي دين الله الخاتم يجب ان تكون للناس كافه بغض النظر عن اعراقهم, وانسابهم, واجناسهم, واعمارهم, وامكاناتهم العلميه والتقنيه والماديه, ومستوياتهم الاجتماعيه, وغير ذلك من الفوارق الطبقيه التي لايقرها الاسلام ولايرضاها ربنا( تبارك وتعالي) اساسا للتفضيل بين خلقه.
ولقد كان في اعلان رسول الله( صلي الله عليه وسلم) لهذا العتاب الالهي الشديد لشخصه الكريم ابلغ الشهادات علي صدق نبوته, ونبل رسالته, وكمال عبوديته لله الخالق, فلا يقوي علي ابراز مثل هذا العتاب الا نبي كريم, يعرف حقوق ربه عليه, وقدسيه الوحي الذي يتنزل اليه بكلمات الله التامات المنزهه عن الحذف او الاضافه او غير ذلك من المداخلات البشريه.
كذلك كان في اعلان هذا القرار الالهي في وجه زعامات قريش, والمسلمون في مكه المكرمه قله مستضعفه في وسط بيئه جاهليه, تقتلها العصبيات العرقيه العمياء, وتحكمها الاعراف الظالمه الجائره, كان في ذلك اعظم الشهادات علي ان هذا النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي. ومعلما من قبل خالق السماوات والارض, ومؤيدا بتاييده الذي لايضام..!!
وتستمر الايات في تاكيد هذا القرار الالهي تذكره( من الله تعالي) لمن شاء ان يتذكر, خاصه ان التذكره مدونه في صحائف القران الكريم, وهي صحف مكرمه عند رب العالمين, مرفوعه مطهره بتكريم الله( تعالي) لها, وحفظه اياها, واشارت الايات الي ان هذه الصحائف مطهره من ايه مداخلات وضعيه, او تحريفات بشريه, او محاولات للتزييف, بايدي سفره* كرام برره* وهم الملائكه المكرمون الذين حملوا القران العظيم الي خاتم الانبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم).
واذا ما عاشت المجتمعات الاسلاميه بهذه المعايير الربانيه التي ترجح اهل الصلاح والتقوي والورع علي اهل الفساد, والاحتيال, والشراهه والطمع, والخبث, والاقبال علي الدنيا, ونسيان الاخره, والتسلق من اجل الوصول الي مقامات السلطه, وابتزاز العباد, ونهب المجتمعات, واذلال الناس, والتجبر علي الخلق... واذا ما سادت معايير السماء علي معايير الارض سعدت المجتمعات الانسانيه واسعدت, ولطالما انعكست الاوضاع, وانقلبت الموازين, وسادت معايير الارض علي معايير السماء.. اضطربت القيم, واختلت المفاهيم, وساد الرعاع, وتكلم في الناس الرويبضه وصدق الكاذب, وكذب الصدوق.. وائتمن الخائن.. وخون الامين... فشقيت المجتمعات الانسانيه واشقت...!!
وتتتابع الايات بعد ذلك في تعجب ساخر من موقف الانسان الذي يكفر بالله, ويتجاهل ضروره الايمان به, ويعرض عن هدايته, ويستعلي علي رسالته وعلي الخضوع لجلاله بالطاعه والعباده, فتذكره الايات باصله ومنشئه, وضعفه في بدايات وجوده, وحاجته الي رعايه ربه في مختلف مراحل نموه, وفي جميع لحظات وجوده; وقد اعطاه الله( تعالي) العديد من المواهب والقدرات, ويسر له سبل الحياه, وطرق الهدايه, والانسان غافل عن ذلك كل الغفله, فلا يؤدي ما عليه لله( تعالي) من حقوق, ولايقوم بدوره علي الارض كما رسمه له خالقه, فما اكفره بنعم الله, وما اجحده بافضال خالقه عليه...!!
وتعبيرا عن هذا الموقف الجاحد من الانسان الكافر بنعم الله والمتنكر لافضاله قال( تعالي): قتل الانسان ما اكفره*
(عبس:17)
ولفظ قتل هنا دعاء علي الكافر, ولعن له, وهو من الله( تعالي) غضب عليه في الدنيا, وعذاب ومهانه واقعان به لا محاله في الاخره, فمهما يطل عمره في الدنيا فاخرته الموت والقبر تحت الارض, والقبر اما ان يكون روضه من رياض الجنه او حفره من حفر النيران.
وامره في بدء خلقه كامره في يوم بعثه الذي يصفه المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بقوله الشريف: ما بين النفختين اربعون... ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل, وليس من الانسان شئ الا ويبلي, الا عظما واحدا, وهو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامه.
وعلي ذلك فان مصير الانسان مرهون بيد خالقه من لحظه النطفه المتناهيه الضاله في الحجم الي خروجه من بطن امه طفلا, ثم مروره بمختلف مراحل الحياه حتي الوفاه, فالله( تعالي) هو الذي خلقه في صلب ابيه حين شاء, واخرجه الي مسرح الحياه حين شاء, وحيث اراد, وهو( سبحانه) الذي انهي حياته حين شاء, وحيث اراد, وابقاه في قبره الي ان يشاء, فاذا جاءت الاخره بعثه ربه من بين التراب كيف يشاء, وانشره ليوم الحساب والجزاء, حيث فريق في الجنه, وفريق في السعير, وانها لجنه ابدا, او نار ابدا كما اخبر الصادق المصدوق( عليه من الله افضل الصلاه وازكي التسليم).
وانطلاقا من ذلك فعلي كل انسان عاقل ان يستعد ليوم الحساب, وان يجد من اجل النجاه من اهواله, فالحياه ليست للهو والعبث, ولايمكن ان تقضي سدي, فللانسان فيها رساله ذات وجهين: عباده الله( تعالي) بما امر, وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الارض بعمارتها, واقامه عدل الله فيها.
والناس في غالبيتهم الساحقه تغيب عنهم هذه الحقيقه, فيهدرون اعمارهم وهم عن الحق لاهون حتي ينتهي بهم الاجل, فيفاجاون بلحظه الحساب, وما اشقها من لحظه..!!
لذلك قال ربنا( تبارك وتعالي):
قتل الانسان ما اكفره*( عبس:17)
والله( تعالي) صاغ هذه الايه الكريمه بصيغه الاستفهام الاستنكاري التوبيخي, التقريعي للانسان الكافر, بمعني ما الذي حمله علي الكفر بالله؟, او ما اشد كفره بالله مع كثره احسان الله( تعالي) اليه, والصيغه في الحالين فيها التعجب من شده كفره, وتاكيد استحقاقه العقاب باشد الوان العذاب...!!
ولذلك اتبعت هذه الايات بقول الحق( تبارك وتعالي):
كلا لما يقض ما امره*( عبس:23)
ولفظه( كلا) هنا بمعني( حقا) انه لم يفعل ما امره به الله( تعالي) فاستحق العذاب الذي حذره( سبحانه) منه عن طريق الانبياء والمرسلين.
وبعد ذلك ينتقل السياق الي استعراض واحده من ايات الله الكبري في الخلق, الا وهي اعداد الطعام المناسب, والكافي, واللازم لكل حي علي الارض, ومن ذلك الانسان وانعامه, ولذلك تلفت الايات نظر الانسان الجاحد الي هذه الحقيقه وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
فلينظر الانسان الي طعامه* انا صببنا الماء صبا* ثم شققنا الارض شقا* فانبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهه وابا* متاعا لكم ولانعامكم*
(عبس:24 32).
والامر بالنظر هنا ليس المقصود به مجرد النظر للابصار, ولكنه النظر للاعتبار, وذلك لان الطعام ضروره من ضرورات الحياه, ولازمه من لوازمها, ولايملك انسان الادعاء بان له يدا في دوره الماء حول الارض, والتي لا ينشئها, ولا يحركها الا الله( تعالي) بعلمه وحكمته وقدرته, وفي ذلك يقول المصطفي( صلي الله عليه وسلم) في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزه والجلال:... اصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فاما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي, كافر بالكوكب, واما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي, مؤمن بالكوكب( البخاري) وقال( صلي الله عليه وسلم):... ولا يعلم متي ياتي المطر احد الا الله...( البخاري)
ولايملك انسان عاقل ان يدعي ان له يدا في عمليه انبات البذور, ولا في شق الارض لاخراج البادرات النباتيه من داخلها..!!
ولايستطيع عاقل كذلك الادعاء بان له يدا في اخراج نوع واحد من انواع نبات الارض والذي تقدر انواعه المعروفه لنا باكثر من ثلاثمائه الف نوع. ويمثل كل نوع من هذه الانواع ببلايين الافراد, وكل نوع من هذه الانواع, بل كل فرد من الافراد له من صفاته الشكليه الخارجيه, والداخليه التشريحيه والوظائفيه ما يميزه عن غيره.
وقد ضرب الله( تعالي) لنا في سوره عبس من نماذج النباتات ما شمل الحبوب, والاعناب, والعلف الرطب للبهائم, والتبن الجاف, والزيتون, والنخل, والحدائق الملتفه الاشجار العظام الغليظه, واشجار الفاكهه, والكلا, والمرعي, وهذه النماذج المختاره في سوره عبس تكاد تغطي كل ما يحتاجه الانسان وانعامه ودوابه من المجموعات الرئيسيه للمملكه النباتيه.
وخاتمه عمر الانسان في هذه الحياه الدنيا, وخاتمه تمتعه بمباهجها وزخرفها هي الموت, والقبر, ثم البعث, والعرض الاكبر امام الله( تعالي) للحساب, ثم الخلود في الحياه القادمه اما في الجنه ابدا واما في النار ابدا, وفي ذلك تقول الايات في ختام سوره عبس ما يلي:
فاذا جاءت الصاخه* يوم يفر المرء من اخيه* وامه وابيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه* وجوه يومئذ مسفره* ضاحكه مستبشره* ووجوه يومئذ عليها غبره* ترهقها قتره* اولئك هم الكفره الفجره*
(عبس:33 42).
والصاخه هي النفخه الثانيه في الصور, وسميت بذلك لانها تصخ الاذان من شدتها وقد استخدمت اللفظه كاسم من اسماء القيامه, التي من تعاظم اهوالها تجعل الانسان يفر من اقرب الناس اليه, والصقهم به..!!
وبعد الحساب ينقسم الناس الي اصحاب الوجوه المؤمنه وهي مسفره, مشرقه, مضيئه, مستبشره بتكريم الله( تعالي) لها في الجنه, وقد بشرت بها, ووجوه اخري للكفره الفجره, الذين كفروا بالله وبرسالته الخاتمه, وخرجوا علي حدوده, وانتهكوا حرماته, وقد علاها الندم والحزن, وارتسمت علي قسماتها بوادر الحسره والياس, وغشيتها ملامح الذل والعار, وقد علمت ان مصيرها الي النار...!!
وعلي هذه الوجوه المؤمنه, وتلك الوجوه الكافره ترتسم مصائر العباد في الاخره, وبذلك وضع الله( تعالي) لنا في مطلع سوره عبس معيارا من معايير الحق, من التزم به فاز في الدنيا والاخره, ومن ضيعه شقي في الدنيا والاخره, ووضع لنا في خاتمه هذه السوره المباركه صوره من صور الثواب والعقاب في الاخره, فالتقي اول السوره بخاتمتها في تزاوج عجيب يشهد لله( تعالي) بطلاقه القدره الالهيه التي ابدعت كتابه الخالد الذي انزله بعلمه علي خاتم انبيائه ورسله, وحفظه بعهده( الذي قطعه علي ذاته العليه) في نفس لغه وحيه( اللغه العربيه) منذ اكثر من اربعه عشر قرنا والي ان يرث الله( تعالي) الارض ومن عليها.
من الاشارات الكونيه في سوره عبس
(1) الاشاره الي خلق الانسان من نطفه تحمل كل صفاته, وجميع المقدر له.
(2) لفت انظار الناس الي جوانب الاعجاز العلمي في توفير كل الاسباب اللازمه لخلق طعام الانسان, وطعام انعامه, وطعام كل كائن حي علي وجه الارض.
(3) الاشاره الي دوره الماء حول الارض بانزاله من السماء.
(4) الاشاره الي شق الارض بواسطه انزال الماء عليها او ريها من اجل اعدادها للانبات, او شقها بواسطه البادرات النباتيه الخارجه منها وكلاهما صحيح.
(5) خلق مختلف انواع النباتات, واعطاء النماذج الاساسيه لها التي يمكن ان تكون تمثيلا كاملا لمجموعات النباتات الراقيه المزهره, التي تشكل الغذاء الرئيسي لكل من الانسان وانعامه( من مثل الحبوب, والاعناب, والقضب, والزيتون, والنخل, والحدائق الغلب, والفاكهه والاب).
(6) الاستدلال باحياء النبات من الارض الهامده, علي احياء الاجسام بعد تحللها الي تراب.
(7) الاشاره الي حقيقه الحياه والموت, ثم من بعد ذلك البعث والحساب.
وكل قضيه من هذه القضايا تحتاج الي معالجه خاصه بها, ولذلك فسوف اقصر الحديث هنا علي النقطه الثانيه فقط من القائمه السابقه, والتي عرضتها السوره الكريمه في اياتها المرقمه من24 الي32 ولكن قبل ذلك لابد من استعراض سريع لاقوال عدد من المفسرين في شرح دلاله هذه الايات الكريمه.
من اقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
فلينظر الانسان الي طعامه* انا صببنا الماء صبا* ثم شققنا الارض شقا* فانبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهه وابا* متاعا لكم ولانعامكم*( عبس:24 32)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: فلينظر الانسان الي طعامه) فيه امتنان, وفيه استدلال باحياء النبات من الارض الهامده, علي احياء الاجسام بعدما كانت عظاما باليه وترابا متمزقا,( انا صببنا الماء صبا) اي انزلناه من السماء علي الارض,( ثم شققنا الارض شقا) اي امسكناه فيها فيدخل في تخومها, فنبت الزرع وارتفع وظهر علي وجه الارض,( فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا), فالحب كل ما يذكر من الحبوب, والعنب معروف, والقضب هو الفصفصه( العلف) التي تاكلها الدواب رطبه, ويقال لها القت ايضا,( وزيتونا) وهو معروف, وهو ادم وعصيره ادم, ويستصبح به ويدهن به( ونخلا) يؤكل بلحا وبسرا, ورطبا وتمرا, ونيئا ومطبوخا, ويعتصر منه رب وخل( وحدائق غلبا) اي بساتين... وغلبا نخل غلاظ كرام,... او كل ما التف واجتمع... او الشجر الذي يستظل به... او غلاظ الاوساط, وقوله تعالي:( وفاكهه وابا) اما الفاكهه فكل ما يتفكه به من الثمار.. او كل ما اكل رطبا, والاب ما انبتت الارض مما تاكله الدواب ولا ياكله الناس( الكلا والمرعي من مثل الحشيش)...., وقوله تعالي( متاعا لكم ولانعامكم) اي عيشه لكم ولانعامكم في هذه الدار, الي يوم القيامه.
وقال بقيه المفسرين كلاما مشابها لا اري حاجه لتكراره هنا علي الرغم من فضل كل واحد منهم.
من الدلالات العلميه للايات الكريمات
* اولا: فلينظر الانسان الي طعامه*
(عبس:24)
اعتمد الانسان في طعامه اساسا علي النبات ولذلك تحدثت الايات التاليه عن صب الماء من السماء صبا, ثم عن شق الارض شقا, ثم عن عدد من النباتات وثمارها تغطي كل مايحتاجه الانسان وانعامه من الطعام النباتي, والطعام النباتي يحمل في طياته الاشاره الي الطعام الحيواني. وذلك لان الحيوانات التي ياكلها الانسان تعتمد في غذائها علي النبات وثماره. والطعام هو مصدر الطاقه اللازمه لمختلف الانشطه في جسم الانسان, وللمحافظه علي درجه حرارته, ولبناء الخلايا والانسجه اللازمه في مختلف مراحل نموه ولتعويض الفاقد منها باستمرار.
وجسد الانسان يحتاج لوجوده حيا الي الهواء, والماء, والطعام, فلو انقطع عنه الهواء لدقائق معدوده هلك بالاختناق, واذا انقطع عنه الماء فانه يمكنه تحمل ذلك لعده ايام, واذا انقطع عنه الطعام يمكنه البقاء حيا لعده اسابيع, مع نقص حاد في الوزن, وتدهور في حالته الصحيه ان لم يتدارك ذلك بتعويض سريع.
ويحتاج الانسان في طعامه الي المواد الاساسيه التاليه:
(1) الكربوهيدرات: وهي مركبات عضويه مهمه تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرتي الايدروجين والاكسجين بنسبه وجودهما في الماء; ووجود الكربوهيدرات في كل من النبات والحيوان في هيئات متعدده ابسطها السكريات الاحاديه مثل سكر العنب( الجلوكوز), وسكر الفاكهه( الفركتوز), ويمكن للسكريات الاحاديه ان تتحد مع بعضها البعض بواسطه روابط خاصه لتكون سكريات ثنائيه مثل سكر القصب والبنجر( السكروز), وسكر الشعير( المالتوز), وسكر الحليب( اللاكتوز), او سكريات ثلاثيه مثل سكر الرافينوز, او سكريات عديده مثل النشا, والسيليولوز. والنشا يوجد في كثير من النباتات مختزنا في بذورها او في درناتها وفي العديد من ثمارها, بينما تتكون جدران الخلايا النباتيه اساسا من السيليولوز وهو يوجد في القش, والخشب, والجوت, وفي ثمار القطن, وفي المجموعات الخضريه للنباتات.
(2) البروتينات: وهي مركبات عضويه تتكون جزيئاتها العملاقه باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرات الايدروجين والاكسجين والنيتروجين, وقد تحتوي بعض جزيئاتها علي ذرات من الكبريت او الفوسفور. وتوجد هذه العناصر في سلاسل طويله من الاحماض الامينيه, ويبلغ عدد الاحماض الامينيه التي تشترك في بناء البروتينات عشرين حمضا, وترتبط مع بعضها البعض برابطه خاصه تعرف باسم رابطه البيبتيد(PeptideBond), ويلتف الجزئ البروتيني علي ذاته في هيئه لولبيه او حلزونيه. وتوجد البروتينات في انواع بسيطه تتكون من الاحماض الامينيه فقط, وانواع معقده( مقترنه) يدخل في بنائها مجموعات من مركبات كيميائيه اخري, وتوجد البروتينات في انسجه الكائنات الحيه وفي جبلتها( البروتو بلازم) وتلعب ادوارا مهمه في العديد من انشطتها الحيويه مثل الدعم والحركه في العظام والعضلات, والنقل والاتصالات في الدم وفي الاعصاب, وفي كتابه الشفره الوراثيه, وفي تحفيز مختلف التفاعلات مثل افراز الانزيمات وبعض الهرمونات.
(3) الزيوت والدهون: وتتكون اساسا من اتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من الايدروجين والاكسجين بنسب اعلي من نسب وجودهما في كل من الماء والكربوهيدرات, وبعض الدهون يحتوي بالاضافه الي ذلك علي عنصري الفوسفور والنيتروجين. والزيوت والدهون لهما تركيب كيميائي متشابه, فاذا بقي هذا التركيب سائلا عند درجه عشرين مئويه سمي زيتا, واذا بقي جامدا سمي دهنا والدهون تعرف باسم الجليسريدات لتكونها من اتحاد بعض الاحماض الدهنيه مع الجليسرين. وتضم الشموع الي مجموعه الزيوت والدهون تحت مسمي اللبيدات(Lipids). وبعض الثمار النباتيه مثل الزيتون, والسمسم, والفول السوداني, وفول الصويا, والخروع, وبذور الكتان, وبذور القطن, وبذور دوار الشمس, وثمار كل من نخيل الزيت, وجوز الهند; وبعض اجنه الحبوب مثل القمح, والذره, والارز تعتبر من اهم مصادر الزيوت النباتيه.
وهذه المركبات التي تدخل في طعام الانسان من الكربوهيدرات الي البروتينات الي الدهون علي قدر هائل من الانتظام والدقه والتعقيد في بنائها, مما يقطع بانها لايمكن ان تكون قد اوجدت نفسها بنفسها, او وجدت بمحض المصادفه, ولذلك تشهد لخالقها العظيم بطلاقه القدره, وابداع الصنعه, واحكام الخلق, ودقه التقدير, ومن هنا كان لفت نظر الانسان الي طعامه....!!
* ثانيا: انا صببنا الماء صبا: وصب الماء اراقته من اعلي, اي انزاله من السماء بغزاره كالغيث, والصبيب هو المصبوب من ماء المطر, ولولا دوره الماء حول الارض لفسد كل مائها الذي هو شريان الحياه, والذي يحيا ويموت فيه بلايين الافراد من الكائنات الحيه في كل لحظه. ويقدر الغطاء المائي للارض حاليا بنحو1,4 بليون كيلو متر مكعب من الماء, يتبخر منه سنويا380,000 كيلو متر مكعب, تعود كلها الي الارض ولكن بتوزيع ينشره الله( تعالي) بعلمه, وحكمته, وقدرته. ولايستطيع التحكم في دوره الماء حول الارض الا الله( تعالي), ولايستطيع احد من الخلق ان ينزل قطره من ماء السماء حيث او متي يشاء, ومن هنا كانت الاشاره الي انزال ماء السماء علي انها من اوضح دلالات القدره الالهيه.
* ثالثا: ثم شققنا الارض شقا: والشق هو واحد الشقوق, وهي الفتحات الطوليه الواقعه في الشئ, والمقصود بالفعل( شققنا) هنا النحر الراسي لماء المطر حينما يصب علي الارض صبا, وقد ثبت ان ماء المطر الساقط علي الارض يستطيع احداث شقوق فيها تتراوح اعماقها بين امتار قليله والمائتي متر, مما يعين علي تخلل الماءللصخور المنفذه ليكون المخزون المائي تحت سطحها, ويجدد عذوبته ومحتواه من غاز الاكسجين.
وكلما اتصلت هذه الشقوق الناتجه عن الحفر الراسي لماء المطر النازل من السماء كالغيث, مع اشباهها من فواصل الصخور وتشققاتها, ومستويات التطبق في الصخور الرسوبيه, وكهوف الاذابه في كل من الصخور الكلسيه والملحيه وما يرتبط بها من حفر, وممرات, ودهاليز, واغوار, قد يصل طولها الي عشرات الكيلو مترات, يفسح مجالا رحبا لتجويه الصخور ولخزن الماء تحت سطح الارض, وتعظيم دوره في توسيع تلك الشقوق والحفر, بمختلف صور التجويه الميكانيكيه( من مثل فعل الصقيع) والتجويه بفعل الكائنات الحيه, والتجويه الكيميائيه( عن طريق الاذابه, والكربنه, ولاحلال, والتميؤ, والاكسده) التي تضعف من تماسك الصخر, وتعين علي تشققه وتفتته وتكون التربه من هذا الفتات, كما تعظم من دور الماء تحت سطح الارض, في المساعده علي امداد نباتات الارض بما تحتاجه من ماء وعناصر غذائيه, وهذا المعني يبدو لي انه الاقرب والله تعالي اعلي واعلم وذلك لوروده بعد الاشاره الي صب الماء من السماء صبا. ولكن لا يستبعد ايضا ان يكون المقصود بشق الارض بعد صب ماء المطر عليها, هو تشقق التربه نتيجه لاختلاطها بماء السماء, والتربه الزراعيه يغلب علي تركيبها المعادن الصلصاليه التي تتكون اساسا من سليكات الالومنيوم الممياه, والمتراصه فوق بعضها البعض في رقائق دقيقه, وهذا المركب الكيميائي له شراهه شديده للماء, فاذا وصله البلل انتفش وانتفخ, وارتفع الي اعلي حتي ترق التربه رقه شديده ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقه المنبثقه من داخل البذره النابته المدفونه في التربه لتصل السويقه الي ما فوق سطح الارض. ويعين علي ذلك ازاحه الماء لقدر من الهواء الموجود بين رقائق الصلصال, والحركه البراونيه للماده الغرويه في دقائق التربه من المعادن الصلصاليه, وتنافر الشحنات الكهربيه المتشابهه علي اسطح تلك الرقائق مع بعضها البعض, ومع قطبي جزئ الماء المزدوج القطبيه, ونشاط كل صور الحياه الكامنه في قطاع التربه وفيها البلايين من الكائنات الحيه الساكنه, فاذا وصلها الماء استيقظت ونشطت ومن ذلك بذور النباتات, وبيض بعض الحيوانات ويرقاتها, وبعض البكتيريا والفطريات وغيرها, ومخزون التربه من هذه الكائنات يتراوح مابين الميكروسكوبيه منها والفقاريه, وقوه انبات البذور من القوي التي لايمكن الاستهانه بها.
* رابعا: فانبتنا فيها حبا*وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا, وحدائق غلبا, وفاكهه وابا متاعا لكم ولانعامكم*
( عبس:27 32)
وهذه الايات احتوت كل صنوف النبات التي يحتاجها الانسان وانعامه في طعامهم.
فلفظه( الحب) تشمل جميع انواع الحبوب من مثل القمح والشعير, والذره, والارز, وهي من النباتات الزهريه ذات الفلقه الواحده, والتي تجمع في العائله النجيليه, وهي اهم عائلات النبات من الناحيه الاقتصاديه, للانسان ولانعامه لانها تضم كذلك كثيرا من حشائش المراعي, وتغطي نباتاتها اكثر المساحات المزروعه علي سطح الارض. والعنب يمثل العائله العنبيه التي تضم11 جنسا, واكثر من ستمائه نوع من انواع النبات.
والقضب هو العلف الرطب للانعام والدواب كالكلا والبرسيم. وسمي قضبا لانه يقضب اي يقطع بعد ظهوره مره بعد اخري. والزيتون ذلك الثمر المبارك من الشجره المباركه يمثل العائله الزيتونيه والتي تشمل22 جنسا, واكثر من خمسمائه نوع من انواع النبات. والنخل يمثل العائله النخيليه وتشمل نحو مائتي جنس, واكثر من اربعهالاف نوع من الاشجار والشجيرات والمتسلقات المنتشره في المناطق الاستوائيه والمعتدله.
و(حدائق غلبا) اي بساتين محوطه, و(غلبا) صفه لتعاظم اشجارها والتفافها.
و(فاكهه): كل ما يتفكه به الانسان من الثمار ويتمتع به من طعام رطب لذيذ الطعم خاصه الثمار الحلوه المذاق, لانه يقال في العربيه تفكه بالشئ اي تمتع به, وقيل في الفاكهه انها الثمار كلها ما عدا العنب والرمان. و(ابا) وهو الكلا والمرعي, وما تاكله الانعام والدواب من غير ذلك من العشب ومختلف اجزاء النبات, رطبا كان ام يابسا( كالتبن والدريس), وهو في ذلك اعم من القضب ولذلك ختمت هذه المجموعه من الايات بقول الحق( تبارك وتعالي):
متاعا لكم ولانعامكم*
( عبس:32).
وهذه الحقائق العلميه لم تعرف الا في القرن العشرين, وورودها في كتاب الله الذي انزل من قبل اربعه عشر قرنا يثبت لكل ذي بصيره ان القران الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد بالنبوه والرساله للنبي الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي اله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين, والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق